فصل: سنة اثنتين وأربعين ومائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر خلع عبد الجبار بخراسان وسمير المهدي إليه:

في هذه السنة خلع عبد الجبار بن عبد الرحمن عامل خراسان للمنصور.
وسبب ذلك أن عبد الجبار لما استعمله المنصور على خراسان عمد إلى القواد فقتل بعضهم وحبس بعضهم، فبلغ ذلك المنصور وأتاه من بعضهم كتاب: قد نغل الأديم. فال لأبي أيوزب: إن عبد الجبار قد أفنى شيعتنا، وما فعل ذلك إلا وهو يريد أن يخلع. فقال له: اكتب إليه أنك تريد غزو الروم فليوجه إليك الجنود من خاسان وعليهم فرسانهم ووجوههم، فغذا خرجوا منها فابعث إليه من شئت فلا تمنع.
فكتب المنصور إليه بذلك، وأجابه: إن الترك قد جاشت وإن فرقت الجنود ذهبت خراسان. فألقى الكتاب إلى أبي أيوب وقال له: ما ترى؟ قال: قد أمكنك من قياده، اكتب إليه: إن خراسان أهم إلي من غيرها وأنا موجه إليك الجنود، ثم وجه إليه الجنود ليكونوا بخراسان، فإن هم بخلعٍ أخذوا بعنقه.
فلما ورد الكتاب بهذا على عبد الجبار أجابه: إن خراسان لم تكن قط أسوأ حالاً منها في هذا العام، وإن دخلها الجنود هلكوا لضيق ما هم فيه من الغلاء. فلما أتاه الكتاب أقلاه إلى أبي أيوبن فقال له اظبو أيوب: قد أبدى صفحته وقد خلع فلا تناظره.
ووجه المنصور ابنه لمهدي وأمره بنزول الري، فسار إليها المهدي، ووجه خازم بن خزيمة بين يديه لحرب عبد الجبار، وسار المهدي فنزل نيسابور، فلما لغ ذلك أهل مرو الورذ ساروا إلى عبد الجبار وحاربوه وقاتلوه قتالاً شديداً، فانهزم منهم لجأ إى معطنة فتوارى فيها، فعبر إليه المجشر بن مزاحم، من أهل مرو الروذ، فاخذه أسيراً، فلما قدم خازم أتاه به فألبسه جبة صوف وحمله على بعير وجعل وجهه مما يلي عجز البعير وحمله إلى المنصور ومعه ولده وأصحابه، فبسط عليهم العذاب حتى استخرج منهم الأموال، ثم أمر فقطعت يدا عبد الجبار ورجلاه وضرب عنقه، وأمر بتسيير ولده إلى دهلك، وهي جزيرة باليمن، فلم يزالوا بها حتى أغار عليهم الهند فسبوهم فيمن سبوا ثم فودوا بعد ذلك. وكان ممن نجا منهم عبد الرحمن بن عبد الجبار، صحب الخلفاء ومات أيام الرشيد سنة سبعين ومائة.
قيل: وكان أمر عبد الجبار اثنتين وأربعين في ربيع الأول، وقيل: س نة أربعين.

.ذكر فتح طبرستان:

ولما ظفر المهدي بعبد الجبار بغير تعب ولا مباشرة قتل كره المنصور أن تبطل تلك النفقات التي أنفق على المهدي، فكتب إليه أن يغزو طبرستان وينزل الري ويجه أبا الخصيب وخازم بن خزيمة والجنود إلى الأصبهبذ، وكان الأصبهبذ يومئذ محارباً للمصمغان، ملك دنباوند، معسكراً بإزائه، فلما بلغه دخول الجنود بلاده ودخول أبي الخصيب سارية قال المصمغان للأصبهبذ: متى قهروك صاروا إلي؛ فاجتمعا على حرب المسلمين. فانصرفالأصبهبذ إلى بلاده فحارب المسلمين، فطالت تلك الحروب، فوجه المنصور عمر بن العلاء إلى طبرستان؛ وهو الذي يقول فيه بشار:
إذا أيقظتك حروب العدى ** فنبه لها عمراً ثم نم

وكان علماً ببلاد طبرستان، فأخذ الجنود وقصد الرويان وفتحها، وأخذ قلعة الطاق وما فيها، وطالت الحرب، فألح خازم على القتال ففتح طبرستان وقتل منهم فأكثر، وسار الأصبهبذ إلى قلعته فطلب الأمان على أن يسلم القلعة بما فها من الذخائر، وكتب المهدي بذلك إلى المنصور، فوجه المنصور صالحاً صاحب المصلى، فأحصوا ما في الحصن وانصرفوا، ودخل الأصبهبذ بلاد جيلان من الديلم فمات بها، وأخذت ابنته، وهي أم إبراهيم بن العباس بن محمد، وقصدت الجنود بلد المصمغان فظفروا به وبالبحيرة، أم منصور بن المهدي.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة عزل زياد بن عبيد الله الحارثي عن مكة والمدنة والطائف، واستعمل على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري في رجب، وعلى الطائف ومكة الهيثم بن معاوية العتكي من أهل خراسان.
وفيها نوفي موسى بن كعب وهو على شرط المنصور وعلى مصر والهند، وخليفته على الهند عيينة أبنه، وكان قد عزل موسى عن مصر ووليها محمد ابن الأشعث ثم عزل ووليها نوفل بن محمد بن الفارت.
وحج بالناس هذه السنة صالح بن علي بن عبد الله بن عباس وهو على الشام، وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سفيان بن معاوية، وعلى خراسان المهدي، وخليفته بها السري بن عبد الله، وعلى الموصل إسماعيل بن علي.
وفيها مات سعد بن سعيد أخو يحيى بن سعيد الأنصاري. وأبان بن تغلب القارئ. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وأربعين ومائة:

.ذكر خلع عيينة بن موسى بن كعب:

في هذه السنة خلع عيينة بن موسى بالسند وكان عاملاً عليها.
وسبب خلعه أن أباه كان استخلف المسيب بن زهير على الشرط، فلما مات موسى أقام المسيب على ماكان يلي من الشرط، وخاف أن يحضر المنصور عيينة فيوليه ما كان إلى أبيه، فكتب إليه ببيت شعر، ولم ينسب الكتاب إلى نفسه:
فأرضك أرضك إن تأتينا ** تنم نومةً ليس فيها حلم

فخلع الطاعة. فلما بلغ الخبر؟إلى المنصور سار بعسكره حتى نزل على جسر البصرة ووجه عمر بن حفص بن أبي صفراء والعتكي عاملاً على السند والهند، فحاربه عيينة، فسار حتى ورد السند فغلب عليها.

.ذكر نكث الأصبهبذ:

في هذه السنة نكث الأصبهبذ بطربرستان العهد بينه وبين المسلخمين وقتل من كان ببلاده منهم، فلما انتهى الخبر إلى المنصور سير مولاه أبا الخصيب وخازم بن خزيمة وروح بن حاتم فأقاموا على الحصن يحاصرونه وهو فيه، فلما طال عليهم المقام احتال أو الخصيب في ذلك فقال لأصحابه: اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي. ففعلوا ذلك به. ولحق بالأصبهبذ فقال له: فعل بي هذا تهمةً منهم لي أن يكون هواي معك؛ وأخبره أنه معه وأنه دليل على عورة عسكرهم. فقبل ذلك الأصبهبذ وجعله في خاصته وألطفه.
وكان باب حصنهم من حجر يلقى إلقاء، ترفعه الرجال وتضعه عند فتحه وإغلاقه، وكان الأصبهبذ يوكل به ثقات أصحابه نوباً بينهم، فلما وثق الأصبعبذ بأبي الخصيب وكله بالباب، فتولى فتحه وإغلاقه حتى أنس به.
ثم كتب أبو الخصيب إلى روح وخازم وألقى الكتاب في سهم وأعلمهم أنه قد ظفر بالحيلة، وواعدهم ليلةً في فتح الباب، فلما كان تلك الليلة فتح لهم، فقتلوا من في الحصن من المقاتلة وسبوا الذرية وأخذوا شكلة، أم إباهيم بن المهدي. وكان مع الأصبهببذ سم فشربه فمات.
وقد قيل: إن ذلك سنة ثلاث وأربعين ومائة.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها مات سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس وهو على البصرة في جمادى الآخرة وعمره تسع وخمسون سنة، وصلى عليه أخوه عبد الصمد.
وفيها عزل نوفل بن الفرات عن مصر ووليها حميد بن قحطبة.
وحج بالناس إسماعيل بن علي بن عبد الله، وكان العمال من تقدم ذكرهم.
وولى المنصور بالجزيرة والثغر والعواصم أخاه العباس بن محمد، وعزل المنصور عمه إسماعيل بن علي عن الموصل واستعمل عليها مالك ابن الهيثم الخزاعي جد أحمد بن نصير الذي قتله الواثق، وكان خير أمير.
فيها مات يحيى بن سعيد الأنصاري أبو سعيد قاضي المدينة، وقيل سنة ثلاث، وقيل سنة أربع وأربعين. وفيها مات موسى بن عقبة مولى آل الزبير. وفيها توفي أيضاً عاصم بن سليمان الأحول، وقيل سنة ثلاث وأربعين. وفيها مات حميد بن أبي حميد طرخان، وقيل مهران مولى طلحة بن عبد الله الخزاعي، وهو حميد الطويل، يروي عن أنس بن مالك، وعمره خمس وسبعون سنة. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وأربعين ومائة:

في هذه السنة ثار الديلم بالمسلمين فتلوا منهم مقتلةً عظيمة، فبلغ ذلك المنصور فندب الناس إلى قتال الديلم وجهادهم.
وفيها عزل الهيثم بن معاوية عن مكة والطائف، وولي ذلك السري بن عبد الله بن الحارث بن العباس، وكان على اليمامة، فسار إلى مكة واستعمل المنصور على اليمامة قثم بن عباس بن عبد الله. وفيها عزل حميد بن قحطبة عن مصر، واستعمل عليها نوفل بن الفرات، ثم عزل نوفل واستعمل عليها يزيد بن حاتم.
وحج بالناس هذه السنة عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله، وكان إليه ولاية الكوفة.
وفيهاثار بالأندلس رزق بن النعمان الغساني على عبد الرحمن، وكان رزق على الجزيرة الخضراء، فاجتمع إليه خلق عظيم، فسار إلى شذونة فملكها ودخل مدينة إسبيلية، وعاجله عبد الرحمن فحصره فيها وضيق على من بها، فتقربوا إليه بتسلمي رزق إليه فقتله فأمنهم ورجع عنهم.
وفيها مات عبد الرحمن بن عطاء صاحب الشارعة، وهي نخل. وسليمان ابن طرخان التيمي. واشعث بن سوار. ومجالد بن سعيد. ثم دخلت:

.سنة أربع وأربعين ومائة:

في هذه السنة سير أبو جعفر الناس من الكوفة والبصرة والحزيرة والموصل إلى غزو الديلم وساتعمل عليهم محمد بن أبي العباس السفاح.
وفيها رجع المهدي من خراسان إلى العراق ونى بريطة ابنة عمه السفاح.
وفيها حج المنصور واستعمل على عسكره والميرة خازم بن خزيمة.

.ذكر استعمال رياح المري على المدينة وأمر محمد بن عبد الله بن الحسن:

وفيها استعمل المنصور على المدينة رياح بن عثمان المري وعزل محمد بن خالد بن عبد الله القسري عنها.
وكان سبب عزله وعزل زياد قبله أن المنصور أهمه أمر محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بت الحسن علي بن أبي طالب وتخلفهما عن الحضور عنده مع من حضره من بني هاشم عام حج أيام السفاح سنة ست وثلاثين، وذكر أن محمد بن عبد الله كان يزعم أن المنصور ممن بايعه ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر مروان بن محمد، فلما حج المنصور سنة ست وثلاثين سأل عنهما، فقال له زياد بن عبيد الله الحارثي: ما يهمك من أمرهما؟ أنا آتيك بهما. وكان معه بمكة فرده المنصور إلى المدينة.
فلما استخلف المنصور لم يكن همه إلا أمر محمد والمسألة عنه وما يريد، فدعا بني هاشم رجلاً رجلاً يسأله سراً عنه، فكلهم يقول: قد علم أنك عرفته يطلب هذا الأمر فهو يخافك على نفسه وهو لا يريد لك خلافاً، وما أشبه هذا الكلام، إلا الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب فإنه أخبره خبره وقال له: والله ما آمن وثوبه عليك، فإنه لا ينام عنك؛ فأيقظ بكلامه من لا ينام، فكان موسى بن عبد الله بن الحسن يقول بعد ذلك: اللهم اطلب حسن بن زيد بدمائنا.
ثم ألح المنصور على عبد الله بن الحسن في إحضار ابنه محمد سنة حج، فقال عبد الله لسليمان بن علي بن عبد الله بن عباس: يا أخي بيننا من الصهر والرحم ما تعلم، فما ترى؟ فقال سليمان: والله لكأنني أنظر إلى أخي عبد الله بن علي حين حال الستر بينه وبيننا وهويشير إلينا: هذا الذي فعلتم بي؛ فلو كان عافياً عفا عن عمه. فقبل عبد الله رأي سليمان وعلم أنه قد صدقه ولم يظهر ابنه.
ثم إن المنصور اشترى رقياً من رقيق الأعراب وأعطى الرجل منهم البعير والرجل البعيرين والرجل الذود وفرقهم في طلب محمد في ظهر المدينة، وكان الرجل منهم يرد الماء كالمار وكالضال يسألون عنه، وبعث المنصور عيناً آخر وكتب معه كتاباً على ألسن الشيعة إلى محمد يذكرون طاعتهم ومسارعتهم وبعث معه بمال وألطافٍ، وقدم الرجل المدينة فدخل على عبد الله بن الحسن ابن الحسن فسأله عن ابنه محمد، فذكر له، فكتم له خبره، فتردد الرجل إليه وألح في المسألة، فذكر أنه في جبل جهينة، فقال له: امرر بعلي ابن الرجل الصالح الذي يدعى الأعر وهو بذي الأبر فهور يرشدك؛ فأتاه فأرشده.
وكان للمنصور كاتب على سره يتشيع، فكتب إلى عبد الله بن الحسن يخبره بذلك العين، فلما قدم الكاتب ارتاعوا له وبعثوا أبا هبار إلى محمد وإلى علي بن الحسن يحذرهما الرجل، فخرج أبو هبار فنزل بعلي بن الحسن وأخبره، ثم سار إلى محمد بن عبد الله في موضعه الذي هو به، فإذا هو جالس في كهف ومعه جماعة من أصحابه، وذلك العين معهم أعلاهم صوتاً وأشدهم انبساطاً، فلما رأى أبا هبار خافه، فقال أبو هبار لمحمد: لي حاجة. فقام معه، فأخبره الخبر، قال: فما الرأي؟ قال: أرى إحى ثلاث. قال: تدعني أقتل هذا الرجل. قال: ما أنا مقارف دماً إلا كرهاً.قال: أثقله حديداً وتنقله معك حيث تنقلب. قال: وهل لنا فرار مع الخوف والإعجال؟ قال: نشده ونودعه عند بعض أهلك من جهينة. قال: هذه إذاً.
فرجعا فلم يريا الرجل.فقال محمد: أين الرجل؟ قالوا تركوه مهملاً وتوارى بهذا الطريق يتوضأ، فطلبوه ولم يجدوه فكأن الأرض التأمت عليه؛ وسعى على قدميه حتى اتصل بالطريق، فمر به الأعراب معهم حمولة إلى المدينة، فقال لبعضهم: فرغ هذه الغرارة وأدخلنيها أكن عدلاً لصاحبتها ولك كذا وكذا. ففعل وحمله حتى أقدمه المدينة.
ثم قدم على المنصور وأخبره خبره كله ونسي اسم أبي هبار وكنيته وقال: وبار. فكتب أبو جعفر في طلب وبار المري، فحمل إليه رجل اسمه وبر، فسأله عن قصة محمد فحلف له أنه لا يعرف من ذلك شيئاً، فأمر به وضرب سبعمائة سوط وحبس حتى مات المنصور.
ثم إنه أحضر عقبة بن سلم الأزدي فقال: أريدك لأمر أنا به معني لم أزل أرتاد له رجلاً عسى أن تكونه، وإن كفيتنيه رفعتك. فقال: أرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين في. قال: فأخف سخصك واستر أمرك وأتني يوم كذا في وقت كذا. فأتاه ذلك الوقت. فقال له: إن بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلا كيدا لملكنا واعتيالاً له، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف من ألطاف بلادهم، فاخرج بكسىً وألطافٍ وعين حتى تأتيهم متنكراً بكتاب تكتبه عن أهل هذه القرية ثم لعلم حالهم، فإن كانوا نزعوا عن رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب، وإن كانو على رأيهم عملت ذلك وكنت على حذر، فاشخص حتى تلقى عبد الله بهم وأقرب، وإن كانوا على رأيهم علملت ذلك وكنت على حذر، فاشخص حتى تلقى عبد الله بن الحسن متخشعاً ومتقشفاً، فإن جبهك، وهو فاعل، فاصبر وعادوه حتى يأنس ويلين لك ناحيته، فإذا أظهر لك ما قبله فاعجل علي.
فشخص حتى قدم على عبد الله فلقيه بالكتاب، فأكره وهره وقال: ما أعرف هؤلاء القوم.فلم يزل يتردد إليه حتى قبل كتابه وألطافه وأنس به، فسأله عقبة الجواب. فقال: أما الكتاب فإني لا أكتب إلى أحد ولكن أنت كتابي إليهم فأقرئهم السلام وأعالمهم أنني خارج لوقت كذا وكذا.
ورجع عقبة إلى المنصور فأعلمه الخبر، فانسأ المنصور الحج وقال لعقبة: إذا لقيني بنو الحسن فيهم عبد الله بن الحسن فأنا مكرمه ورافع محلته وداع بالغداء، فإذا فرغنا من طعامنا فلحظتك فامثل بين يديه قائماً، فإنه سيصرف عنك بصره، قاستدر حتى ترمز ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ عينه منك ثم حسبك وإياك أن راك ما دام يأكل.
فخرج إلى الحج، فلما لقيه بنو الحسن أجلس عبد الله إلى جانبه ثم دعا بالغداء فأصابوا منه، ثم رفع فأقبل على عبد الله بن الحسن فقال له: قد علمت ما أعطيتني من العهود والمواثيق ألا تبغيني بسوء ولا تكيد لي سلطاناً؟ قال: فأنا على ذلك يا أمير المؤمنين. فلحظ المنصور عقبة بن سلم فاستدار حتى وقف بين يدي عبد الله فأعرض عنه، فاستدار حتى قام وراء ظهره فغمزه بإصبعه، فرفع رأسه فملأ عينه منه، فوثب حتى قعد بين يدي المنصور فقال: أقلني يا أمير المؤمنين أقالك الله! قال: لا أقالني الله إن أقلتك! ثم أمر بحبسه.
وكان محمد قد قدم قبل ذلك البصرة فنزلها في بني راسب يدعو إلى نفسه، وقيل: نزل على عبد الله بن شيبان أحد بني مرة بن عبيد، قم خرج منها، فبلغ المنصور مقدمة البصرة، فسار إليها مجداً فنزل عند الجسر الأكبر، فلقيه عمرو بن عبيد فقال له: يا أبا عمان هل بالبصرة أحد نخافه على أمرنا؟ قال: لا. قال: فأقتصر على قولك وأنصرف. قال: نعم.
وكان محمد قد سار عنها قبل مقدم المنصور، فرجع المنصور واشتد الخوف على محمد وإبراهيم ابني عبد الله فخرجا حتى أتيا عدن، ثم سار إلى السند ثم إلى الكوفة ثم إلى المدينة.
وكان المنصور قد حج سنة أربعين ومائة فقسم أموالاً عظيمة في آل أبي طالب، فلم يظهر محمد وإبراهيم، فسأل أباهما عبد الله عنهما، فقال: لا علم لي بهم، فتغالظا، فأمصه أبو جعفر المنصور حتى قال له: امصص كذا وكذا من أمك! فقال: يا أبا جعفر بأي أمهاتي تمصني؟ أبفاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ أم بفاطمة بنت الحسن بن علي؟ أم بأم إسحاق بنت طلحة؟ أم بخديجة بنت خويلد؟ قال: لا بواحدة منهن ولكن بالجرباء بنت قسامة بن زيهر! وهي امرأة من طيء، فقال المسيب بن زيهر: يا أمير المؤمنين دعني أضرب عنق ابن الفاعلة! فقام زياد بن عبيد الله فألقى عليه رداءه وقال: هبه لي يا أمير المؤمنين فأستخرج لك ابنيه؛ فتخلصه منه.
وكان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله قد تغيبا حين حج المنصور سنة أربعين ومائة عن المدينة، وحج أيضاً فاجتمعوا بمكة وأرادوا اغيتال المنصور، فقال لهم الأشتر عبد الله بن محمد: أنا أكفيكموه! فقال محمد: لا والله لا أقتله أبداً غيلةً أدعوه. فنقض ما كانوا أجمعوا عليه. وكان قد دخل علهم قائد من قواد المنصور من أهل خراسان اسمه خالد بن حسان يدعى أبا العساكر على ألف رجل، فنمى الخبر إلى المنصور فطلب، فلم يظفر به، فظفر بأصحابه فقتلهم، وأما القائد فإنه لحق بمحمد بن عبد الله بن محمد.
ثم إن المنصور حث زياد بن عبيد الله على طلب محمد وإبراهيم، فضمن له ذلك ووعده به، فقدم محمد المدينة قدمة، فبلغ ذلك زياداً فتلطف له وأعطاه الأمان على أن يظهر وجهه للناس، فوعده محمد ذلك، فركب زياد مع المساء وواعد محمداً سوق الظهر، وركب محمد، فتصايح الناس: يا أهل المدينة المهدي المهدي! فوقف هو وزياد، فقال زياد: يا أيها الناس هذا محمد بن عبد الله بن الحسن؛ ثم قال له: الحق بأي بلاد الله شئت. فتوارى محمد.
وسمع المنصور الخبر فأرسل أبا الأزهر في جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين ومائة إلى المدينة، فأمره أن يستعمل على المدينة عبد العزيز بن المطلب وأن يقبض على زياد وأصحابه ويسير بهم إليه، فقدم أبو الأزهر المدينة ففعل ما أمره وأخذ زياداً وأصحابه وسار نحو المنصور، وخلف زياد في بيت مال المدينة ثمانين ألف دينار، فسجنهم المنصور ثم من عليهم بعد ذلك.
واستعمل المنصور على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري، وأمره بطلب محمد بن عبد الله وبسط يده في النفقة في طلبه. فقدم المدينة في رجب سنة إحدى وأربعين، فأخذ المال ورفع في محاسبته أموالاً كثيرة أنفقها في طلب محمد، فاستبطأه أبو جعفر واتهمه، فكتب إليه يأمره بكشف المدينة وأعراضها، فطاف ببيوت الناس فلم يجد محمداً.
فلما رأى المنصور ما قد أخرج من الأموال ولم يظفر بمحمد استشار أبا العلاء، رجلاً من قيس عيلان، في أمر محمد بن عبد الله وأخيه، فقال: أرى أن تستعمل رجلاً من ولد الزبير أو طلحة فإنهم يطلبونهما بذحلٍ ويخرجونهما إليك. فقال: قاتلك الله ما أجود ما رأيت! والله ما خفي علي هذا، ولكني أعاهد الله لا أنتقم من بني عمي وأهل بيتي بعدوي وعدوهم، ولكني أبعث عليهم صعلوكاً من العرب يفعل بهم ما قلت.
فاستشار يزيد بن يزيد السلمي وقال له: دلني على فتى مقلٍ من قيس أغنيه وأشرفه وأمكنه من سيد اليمن، يعني ابن القسري، قال: هو رياح بن عثمان بن حيان المري، فسيره أميراً على المدينة في رمضان سنة أربع وأربعين.
وقيل: إن رياحاً ضمن للمنصور أن يخرج محمداً وإبراهيم ابني عبد الله إن استعمله على المدينة، فاستعمله عليها، فسار حتى دخلها، فلما دخل دار مروان، وهي التي كان ينزلها الأمراء، قال لحاجب كان له يقال له أبو البختري: هذه دار مروان؟ قال: نعم. قال: أما إنها محلال مظعان ونحن أول من يظعن منها. فلما تفرق الناس عنه قال لحاجبه: يا أبا البختري خذ بيدي ندخل على هذا الشيخ، يعني عبد الله بن الحسن؛ فدخلا عليه، وقال رياح: أيها الشيخ إن أمير المؤمنين والله ما استعملني لرحم قريبة ولا ليد سلفت إليه، والله لا لعبت في كما لعبت بزياد وابن القسري، والله لأزهقن نفسك أو لتأتيني بابنيك محمد وإبراهيم! فرفع رأسه إليه وقال: نعم، أما والله إنك لأزيرق قيس المذبوح فيها كما تذبح الشاة! قال أبو البختري: فانصرف والله رياح آخذاً بيدي أجد برد يده وإن رجليه لتخطان الأرض مما كلمه. قال: فقلت له: إن هذا ما اطلع على الغيب. قال: إيهاً ويلك! فوالله ما قال إلا ما سمع. فذبح كما تذبح الشاة.
ثم إنه دعا بالقسري وسأله عن الأموال، فضربه وسجنه وأخذ كاتبه زراعاً وعاقبه فأكثر، وطلب إليه أن يذكر ما أخذ محمد بن خالد من الأموال، وهو لا يجيبه، فلما طال عليه العذاب أجابه إلى ذلك، فقال له رياح: احضر الرفيعة وقت اجتماع الناس، ففعل ذلك، فلما اجتمع الناس أحضره فقال: أيها الناس إن الأمير أمرني أن أرفع على ابن خالد، وقد كتبت كتاباً لأنجو به وإنا لنشهدكم أن كل ما فيه باطل. فأمر رياح فضرب مائة سوط ورد إلى السجن.
وجد رياح في طلب محمد، فأخبر أنه في شعب من شعاب رضوى، جبل جهينة، وهو في عمل ينبع، فأمر عامله في طلب محمد، فهرب منه راجلاً فأفلت وله ابن صغير ولد في خوفه وهو مع جارية له فسقط من الجبل فتقطع، فقال محمد:
منخرق السّربال يشكو الوجى ** تنكبه أطراف مروٍ حداد

شرّده الخوف فأزرى به ** كذاك من يكره حرّ الجلاد

قد كان في الموت له راحة ** والموت حتم في رقاب العباد

وبينا رياح يسير في الحرة إذ لقي محمداً، فعدل محمد إلى بئر هناك فجعل يستقي، فقال رياح: قاتله الله أعرابياً ما أحسن ذراعه!